المادة    
وحتى نتأدب جميعاً بآداب طالب العلم لا بد أن نحرص على ما ينفعنا ولا نستكثر من المسائل.
ولهذا يقول الشعبي وهو من التابعين -رضي الله تعالى عنه- لما رأى الناس يتدافعون عليه، ويذهبون من تابعي إلى تابعي في أيامه، قال: [[لو أن القرآن أنزل على هؤلاء لكان عامته يسألونك ويسألونك -من كثرة ما يسأل الناس- ولكن ليس فيه إلا بضعة مواضع ]] وهي ثمانية مواضع في القرآن الكريم كلها (يسألونك) لكن لو نزل القرآن عندنا اليوم, كم يسألونك؟ كل شيء يسألونك.
{إنما أهلك من كان قبلنا كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم}، وهذا واقعنا اليوم.
بعض الناس في الحج -كمثال وهذا نحن نعيشه في كل موسم حج- يسألك عن لقط الجمار، هل يجوز أن ألقطها من منى أو من مزدلفة؟
فيجاب: الحمد لله, لا بأس، إن أخذتها من منى أو مزدلفة أو من أي مكان فلا حرج، لكن أين وقفت يوم عرفة؟
فيقول: الحمد لله تحت الجسر، أي وقف تحت الجسر إلى الغروب.
قلنا: تحت الجسر ليس من عرفة.
قال: لكننا وقفنا.
نقول: أنت جئت تسأل عن شيء هين ولم تسأل عن الشيء الهام، أنت تركت ركن الحج، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{الحج عرفة} وكثير من الناس بل آلالاف يحجون ولا يقفون بـعرفة؛ لأنه يقف في عرفة تحت الجسر ويظن نفسه أنه فعل الواجب.
هذا لأنه ما اهتم، وما تفقه كيف يحج وأين يقف؟ لكن رأى واحداً يفتي بالميكرفون والناس عليه يتجمعون، قال: أذهب وأسأله عن الحجارة وأنا على الطريق.
وحتى في صلاتنا بعض الناس لا يحسن الفاتحة، ويأتي ويسألك في قضايا يقول: سمعنا أن هناك أناساً على جهالة أو على ضلالة هؤلاء يوم القيامة هل يدخلهم الله النار أو الجنة؟
فتحتار في أمره, وماذا تقول له! أتقول له: هؤلاء أهل فترة وفيهم خلاف وتشرح له في واد بعيد، ولو قلت له: تعال اقرأ الفاتحة فلا يجيد قراءتها، أو سألته: ما هي أركان الصلاة؟ لا يعرفها، إذاً ما الفائدة؟!!
يا أخي! هذا القرآن جعله الله موعظة، وكان العلماء من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينهون عن سماع القصص وهي مواعظ خير، وبعضها حق أو أكثرها ولكنهم كانوا ينهون عنها.
حتى لا تكون على حساب العلم والتفقه في الدين.
فالإنسان الذي لا يعرف معنى لا إله إلا الله ولا يعرف الشرك -وهو أعظم ذنب قد يقع فيه- ثم يظن أنه في حاجة إلى دقائق العلم، وهكذا.
حدث ذات مرة أن رجلاً سأل سؤالاً غريباً -لاداعي لذكره- فقلت له: أنت تقرأ القرآن فقال: الحمد لله، فقلت: أنت تعرف معنى ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ))[الفلق:1]، ما معنى الفلق؟ وغاسق إذا وقب؟ والنفاثات في العقد؟
قال: والله ما أعرفها، وهذه في السور الذي يحفظها الطالب المبتدئ وكل أحد، ثم تأتي وتسأل عن أشياء غريبة, كمثل ما يسأل في البعض في قوله تعالى: ((وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ))[يوسف:20] كم الدراهم؟ وبكم باعه إخوانه؟
حسناً إذا كانت عشرة دارهم أو مائة، ماذا يضرك وماذا ينفعك؟ أهم شيء أن تعرف أنت ما الذي يجب أن تعلمه حتى تعمل به.
هذا الواقع اليومي الذي نعيشه نجد النقص عند الناس في هذا الجانب من الآداب, وهو جانب عظيم من آداب طالب العلم وهو ينقصنا جميعاً، هذا الجانب: أننا لا نسأل إلا بقدر؛ ولا نسأل إلا فيما يهمنا، وأن يكون همنا أن نسمع ونتلقى، فإذا تلقينا شيئاً وعزمنا على أن نعمل به، فلن نحتاج إلى أن نسأل كثيراً، ولهذا قلَّت أسئلة الصحابة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون إذا جاء الأعرابي من البادية لأنه -جاهل- يتجرأ، ويسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يعون ويفقهون، لكنهم لا يتجرءون أن يسألوا؛ لتأدبهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن نحتاج إلى من يعمل بما علم ومن يسأل عن شيء ويلتزم العمل به.
بقي بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- في سورة البقرة ثمان سنين مثل ابن عمر رضي الله عنه حتى يتعلمها فقال: [[كنا لا نتجاوز الآية من القرآن حتى نحفظها ونفقهها ونعرف ما فيها من العلم والعمل، فأوتينا الإيمان قبل القرآن]]، أما الآن فإن الناس بالعكس.
والحمد لله ومن فضل الله علينا وعلى الأمة جميعاً أن الواحد منا يدخل التحفيظ أربع سنوات أو خمس سنوات ويحفظ من القرآن ما وفقه الله ويسره له، وهذا شيء جيد، لكن في جانب التربية لا ينبغي أن نعطي القرآن قبل الإيمان، بل يجب أن نعطي الإيمان قبل القرآن، فالإيمان قبل القرآن.
والتأدب بآداب القرآن وآداب حملة القرآن قبل تعليم الناس أحكام الحلال والحرام شيء هام، وإلا كان ذلك حجة لهذا الصاحب، ألا ترى أن بعض من تعلم وتفقه في الدين وأخذ الشهادة في ذلك يُضل ويَضل، ويقطع طريق الدعوة والخير على أهل الخير والدعوة، يأخذه الناس قدوة وحجة -والعياذ بالله- وإذا أخذ الناس مجرد العلم بغير أدب، فهذه مصيبة تحل على الدعوة.
فلا بد من خشية الله، تقواه، ومن الإخلاص له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبذل لهذا العلم في سبيله عز وجل، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبارك لنا ولكم.